اصطلاحات تربوية
ألفت الانتباه بدءاً، إلى أن أكثر الاصطلاحات التربوية المعاصرة، لا تخرج عن كونها إما تعريباً لاصطلاحات غربية منشأ ولغة، أو ترجمة لها، أو استعمالاً لبعض الألفاظ المتداولة قديماً للدلالة على معانٍ حديثة مستمدة من مفاهيم علوم التربية المعاصرة.
ولا يسعنا بالإضافة إلى ذلك إنكار القيمة النظرية والمنهجية التي يتحلى بها البحث التربوي المعاصر سواء في نظرته التحليلية لعمليتي التعليم والتعلم، أو في دقة تقسيماته واصطلاحاته.
في معنى المنهج والمنهجية والمنهج التربوي
لعل الممارسين في الحقل التربوي متفقون على أن العملية التعليمية ينبغي أن تخضع لمنهج واضح المعالم، وتنضبط لمراحل وإجراءات تنفي عن التدريس العشوائية وتميّزه عن العمل الثقافي العام، وتصبغه بصبغة علمية مضبوطة؛ ولكنهم يختلفون في تقدير مدى أهمية المنهج في تدريس الفقه، حيث ما يزال كثير منهم يعتقدون أن انعكاسات اختلال منهج التدريس هو البطء في توصيل المعلومات، حيث يتأخر الطلبة في فهم الدروس، في حين أنه لو كان المنهج سليما لتمكن الطلبة من استيعاب الدروس في أقرب وقت.
وبذلك فإن الخلط واضح بين منهج التدريس، وكفاءة الأستاذ وما يتخذه من وسائل وتقنيات لتبليغ المعلومات (وهو جزء من المنهج وليس المنهج كله)، كما أن هذا التقدير الضعيف لأهمية المنهج يعكس فهماً تقليدياً للمنهج التربوي حيث إنه ينطلق من أسبقية المعرفة وجاهزيتها، أي أن العلم هو الأحكام الجاهزة الموروثة عن العلماء والباحثين، والمجموعة في المدونات والكتب، ثم لا يحتاج الأمر إلا إلى توصيل تلك المعارف إلى عقول المتعلمين بأيسر الطرق.
إن هذا التصور للمنهج التربوي هو في حقيقته إخلال العملية التعليمية-التعلمية ذاتها، وإقامة للعوائق المعرفية في وجهها.
ليتضح الأمر أكثر سأعمل على بيان معنى المنهج عموماً والمنهج التربوي وعناصره وأهم اتجاهاته:
1- في معنى المنهج:
المنهج والنهج والمنهاج في اللغة سواء وهو الطريق الواضح. واستنهجَ الطريقُ: صارَ نَهْجاً، ونهجتُ الطريقَ: سلكتُهُ . قال الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [سورة المائدة، الآية: 50]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: "الشرعة وهي الشريعة أيضا هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال شرع في كذا، أي ابتدأ فيه، وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء. أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل، والسنن والطرائق" .
لقد لاحظ بعض الباحثين أن الاستخدام المعاصر لكلمة منهج يعرف تعدداً في الدلالة وخلطاً في الاستعمال: "حيث نجد أنه يستخدم بدلالات متنوعة، فتارة يكون مرادفا للنموذج المعرفي والرؤية الكلية للإنسان والكون والحياة، فيقال: المنهج الإسلامي، وأخرى يرادف موضوعاً أو تخصصاً فيقال: المنهج الاقتصادي في الإسلام، أو المنهج السياسي في الإسلام، ويقصد به علم الاقتصاد أو علم السياسة عند المسلمين، وثالثة يرادف المذهبية فيقال: منهج المعتزلة أو الأحناف أو الحنابلة، ورابعة يرادف أسلوب البحث الذي يتتبعه فرد أو مفكر معين فيقال: منهج ابن تيمية في كذا، ونادرا ما يستخدم في دلالة تقترب من المعنى الذي يركز على وسائل أو طرائق البحث العلمي، وهذه قضية تحتاج أيضا إلى ضبط لتحديد دلالة المصطلح بين المتعاملين به" .
والدلالة المستخدمة نادراً هي المقصودة هنا "يعرف المنهج في البحوث العلمية بعبارة موجزة بأنه: فن التنظيم الصحيح لسلسلة الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين، وإما من أجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين" .
إن هذه الطريقة المنظمة في البحث الفقهي ينبغي أن تكون واضحة لكل طالب للعلوم الشرعية وإلا لما صح تسمية اشتغاله فقهاً، لذلك يركز العلماء على اكتساب المنهج في ذات الوقت الذي تتلقى فيه مفردات علم من العلوم، فإن الشرعة والمنهاج متلازمان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم: [مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ] ، فالطريق قد تحمل على المعنى المادي وقد تحمل على منهج البحث الذي يسلكه العالم للكشف عن الحقائق قال ابن رجب الحنبلي (ت795ﻫ) في شرح هذا الحديث: "ويدخل فيه سلوك الطرق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم مثل حفظه ومدارسته ومذاكرته ومطالعته وكتابته والتفهم له ونحو ذلك من الطرق المعنوية التي يتوصل بها إلى العلم" .
"والباحثون على حق حين يحرصون على تحديد المناهج التي يعالجون بها دراساتهم قبل مزاولة البحث في موضوعاتهم، إذ البحث عن الحقائق ومحاولة التوصل إلى قوانين عامة لا يكون بغير منهج واضح يلزم الباحث نفسه بتتبع خطواته ومراحله" .
2- في التمييز بين المنهج والمنهجية:
تميّز بعض الدراسات الحديثة بين المنهج والمنهجية، وتجعل لكل لفظة دلالة خاصة استبعادا للخلط الاصطلاحي، يقول نصر محمد عارف في تقديمه لكتاب قضايا المنهجية: "المنهجية والمنهج ليسا حقيقة واحدة وإنما أحدهما يمثّل إطاراً للآخر، فالمنهجية Methodology هي العلم الذي يدرس كيفية بناء المناهج واختبارها وتشغيلها وتعديلها ونقضها وإعادة بنائها، يبحث في كلياتها ومسلماتها وأطرها العامة، فهو الصلة ما بين النموذج المعرفي والمناهج Methods، التي تمثل الوسائل والطرائق التي تستخدم للوصول إلى الحقيقة ويسلكها العقل البشري لكشف غوامض الوجود وفك أسراره والاقتراب من حقائقه..." ، يظهر من خلال هذا أن المنهج لصيق بالعلم الذي يجري فيه البحث، لذلك تتعدد المناهج بتعدد العلوم، أما المنهجية فهي بحث نظري "يندرج عادة ضمن موضوعات فلسفة العلم التي اتسع نطاق اهتمامها في العصر الحاضر ليشمل دراسة وتحليل كل ما يتعلق بالعلوم ولغتها وتطويرها وتقنياتها..." .
3- في معنى المنهج التربوي:
"أعطيت للمنهج (التربوي) بمفهومه الحديث تعريفات عديدة ولعل من أدق هذه التعريفات وأوضحها دلالة ما يلي:
أ- المنهج التربوي هو جميع الخبرات (النشاطات أو الممارسات) المخططة التي توفرها المدرسة لمساعدة التلاميذ على تحقيق النتاجات (العوائد) التعلميّة المنشودة إلى أفضل ما تستطيعه قدراتهم.
ب- هو كل دراسة أو نشاط أو خبرة يكتسبها أو يقوم بها التلميذ تحت إشراف المدرسة وتوجيهها سواء أكان ذلك في داخل الفصل أو خارجه" .
ﺠ- إن المنهج التعليمي كما تعرفه التربية الحديثة هو: "التخطيط الدقيق المتكامل الذي يرسم الاتجاه التعليمي العام، وهو يشمل الغايات والمرامي والأهداف التي تترجم إلى مضامين ومقررات مع تحديد لاستراتيجيات التعلم وطرقه ووسائله" .
هذا التعريف للمنهج التربوي يتعلق غالباً بالتدريس ما قبل الجامعي، حيث يكون ارتباط التلميذ بالمدرسة كبيراً، ولكن لا بأس من الاستفادة منه في التدريس العالي حيث تندر البحوث البيداغوجية في التعليم الجامعي اكتفاءً بخبرة الأستاذ المعرفية وتعويلا على التعلم الذاتي والتكوين المستقل للطالب دونما حاجة إلى تخطيط وتقنين للعملية التعليمية-التعلمية؛ ولعمري إن هذا من الأخطاء القاتلة التي جنت على التدريس بالجامعة، وجعلته يرتد إلى دركات الإسفاف ويخبط خبط عشواء.
نعم ثمة فوارق بين تعليم الصغار وتعليم الكبار، ولكن هذا لا يسوغ القول بعدم الحاجة إلى منهج تربوي في التعليم الجامعي، وأن الحاجة إليه متعلقة بالتعليم في المراحل المتقدمة على الجامعة، إذ ليس هنالك عمل ناجح دون خطة مسبقة واضحة المراحل والخطوات، والاختلاف بين المنهجين إنما يكون في الخصائص والقضايا التفصيلية لا في ذات المنهج.
"تشتمل بنية المنهج على أربعة عناصر أساسية مترابطة، يؤثر كل منها في الآخر ويتأثر به... هي: الأهداف، المحتوى، الخبرات التعليمية، والتقويم، مما يشير إلى أن هناك أربعة أسئلة رئيسية لابد من الإجابة عنها عند بناء أي منهج، وهذه الأسئلة هي:
- لماذا نُعلّم؟ ويُشير هذا السؤال إلى الأهداف المراد تحقيقها.
- ماذا نُعلّم؟ ويشير إلى المادة الدراسية (المحتوى) التي سنُعلِّّمُها.
- كيف نُعلّم؟ ويُشير إلى الطرق والأساليب والأنشطة المستخدمة لتحقيق الأهداف.
- وكيف يمكن الحكم على النتائج؟ ويشير إلى أسلوب التقويم المتّبع" .
تتعدّد المناهج التربوية نتيجة للاجتهادات المتنوعة في فلسفة التربية، فبعض المناهج تركز اهتمامها على المعرفة وتنظيمها المنطقي، وبعضها تهتم بشخصية المتعلم ونموه العقلي، ومناهج أخرى تُعنى بالوظيفة الاجتماعية للعلم وفائدته العملية
4- علم التدريس/الديداكتيك:
قال صاحب لسان العرب في شرح لفظة "التدريس": ودَرَسَ الناقةَ يدْرُسُها دَرْساً: راضَهَا، ودَرَس الكتاب يدرُسُه درْساً ودراسة، ودارسه من ذلك، كأنه عانده حتى انقاد لحفظه، وقد قُرئ بِهما: وَليَقولُوا دَرَسْتَ [سورة الأنعام، الآية: 105] وليقولوا دَارَسْتَ، وقيل دَرَسْتَ: قَرَأْتَ كتب أهل الكتاب، ودارَسْتَ: ذاكَرتهم" .
يحمل التعريف اللغوي معاني المعاندة والمحاولة، والترويض، وهي المعاني التي قضت بأن يتحول التدريس إلى علم قائم بذاته، تبلورت أدبياته في علوم التربية المعاصرة. التدريس باعتباره علماً من العلوم يطلق عليه في المدارس التربوية الغربية –والعربية بالتبعية لها- اصطلاح الديداكتيك (La didactique)، وتعْني في أقرب معانيها ما يلي: "الديداكتيك هي بالأساس تفكير في المادة الدراسية بُغية تدريسها، فهي تواجه نوعين من المشكلات: -مشكلات تتعلق بالمادة وبنيتها ومنطقها، وهي مشاكل تنشأ عن موضوعات ثقافية سابقة الوجود. -ومشاكل ترتبط بالفرد في وضعية التعلم وهي مشكلة منطقية وسيكولوجية" .
ويقترح أحد التربويين المغاربة تعريفاً تقريبياً للديداكتيك، حيث يقول: "ويمكن بدورنا أن نصُوغ تعريفا شاملاً للديداكتيك يتضمن معظم مكونات موضوعها، وذلك على الشكل التالي: الديداكتيك هي الدراسة العملية لمحتويات التدريس وطرقه وتقنياته، ولأشكال تنظيم مواقف التعلم التي يخضع لها التلميذ قصد بلوغ الأهداف المرسومة سواء على المستوى العقلي أو الانفعالي أو الحسي-الحركي" .
يتضح من مجمل التعريفات الموضوعة لاصطلاح الديداكتيك، أنها تعنى:
- بالبحث في المادة العلمية من أجل تنظيمها تنظيماً صالحاً للتمرير والتلقي في حصص التعليم.
- بالبحث في الجوانب النفسية والعقلية للمتعلم من أجل تنظيم المادة وفق حاجاته، واختيار أنسب الطرق والوسائل.
- بالبحث في مواقف التعليم وتقنياته وطرقه ووسائله التي تساعد على تدريس مادة معينة.
إذا كان البحث التربوي منصباً على مادة دراسية محددة، فإننا نكون بصدد "الديداكتيك الخاصة"، كما هو الشأن في هذه الوحدة. ويقابلها "الديداكتيك العامة" وهي التي تسعى إلى تطبيق مبادئها وخلاصة نتائجها على مجموع المواد التعليمية.
5- البيداغوجيا/علوم التربية:
البيداغوجيا (La pédagogie) هي علم للتربية سواء كانت جسدية أم عقلية أم أخلاقية:
وهي تستفيد من معطيات حقول معرفية كثيرة كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإحصاء... ولذلك درج التربويون العرب على ترجمتها إلى علوم التربية. وينبغي عدم الخلط بين التربية (L’éducation) والبيداغوجيا، فإن الأولى تعني الممارسة والتطبيق، ويعرفها بعضهم بأنها عملية تنمية متكاملة ودينامية تستهدف مجموع إمكانات الفرد البشري الوجدانية والأخلاقية. والعقلية والروحية والجسدية، أو هي سلسلة من العمليات يدرب من خلالها الراشدون الصغار من نفس نوعهم، ويسهلون لديهم نمو بعض الاتجاهات والعوائد. أما البيداغوجيا فهي بحث نظري يهدف إلى تحقيق تراكم معرفي أي تجميع الحقائق حول المناهج والتقنيات والظواهر التربوية من أجل اقتراح تقنيات وطرق للممارسة التربوية. وبهذا المعنى يمكن أن نتحدث عن البيداغوجيا المؤسساتية أو البيداغوجيا اللاتوجيهية أو بيداغوجيا حل المشكلات...
- ابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (ت711ﻫ)، "لسان العرب"، 2/383، دار صادر، بيروت، ط6/1997.
- إسماعيل بن كثير، "تفسير القرآن العظيم"، 2/588، دار الفكر، ط1، 1980.
- نصر محمد عارف، "قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية"، أنظر المقدمة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، (سلسلة المنهجية الإسلامية 12)، ط1، 1996، ص: 9.
- عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، "منهج البحث في الفقه الإسلامي، خصائصه ونقائصه"، دار ابن حزم، بيروت، المكتبة المكية، مكة المكرمة، ط2، 2000. ص: 15.
- أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب العلم، رقم الحديث 2699، بيت الأفكار الدولية للنشر والتوزيع، الرياض، 1998، ص: 1082.
- أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم"، الحديث السادس والثلاثون، دار المعرفة بيروت، دون تاريخ، ص: 323.
- محمد علي الجندي، المناهج بين النظريتين الأحادية والتعددية، ضمن "قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية"، ص: 103.
- "قضايا المنهجية"، مرجع سابق، ص: 8.
- أحمد فؤاد باشا، نسق إسلامي لمناهج البحث العلمي، ضمن "قضايا المنهجية"، مرجع سابق. ص: 67.
- صالح ذياب هندي – هشام عامر عليان، "دراسات في المناهج والأساليب العامة"، دار الفكر، الأردن، ط7، 1999، ص: 17.
- المصطفى بوشوك، "المنهج التعليمي والعمل التربوي المضبوط"، مجلة التدريس (مجلة مغربية لعلوم التربية)، ع7، س84، ص: 54.
- صالح ذياب هندي – هشام عامر عليان، "دراسات في المناهج والأساليب العامة"، مرجع سابق، ص: 85-86.
- ابن منظور، "لسان العرب"، ج6/79، دار صادر، بيروت، ط6/1997.
- عبد اللطيف الفارابي وآخرون، "معجم علوم التربية: مصطلحات البيداغوجيا والديداكتيك"، سلسلة علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، 1994، ص: 46.
وأنظر أيضا: رشيد بناني، "من البيداغوجيا إلى الديداكتيك"، منشورات الحوار، ط1/1991، ص: 39.
- محمد الدريج، "ما هي الديداكتيك...؟"، مجلة التدريس، ع7، س84، ص: 46.
- أنظر محمد الصدوقي، "المفيد في التربية"، مطبعة أنفوبرانت، فاس، ط2/2006، ص: 19. وأنظر أيضا، "معجم علوم التربية"، مرجع سابق، ص: 36.