المركز التربوي الجهوي بوجدة
..::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::..
..:::::::::::::::: الســـــلام عليكــــم ورحمـــــة الله وبركاتــــــه ::::::::::::::::::::::::::::::..
..:::::::::::::: منتديــــات الطلبـــة الأساتــــذة ترحـــب بكــــــم ::::::::::::::::::::::::::::..
..::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::..
..::::::::::::: فضلا سجل(ي) نفسك بالمنتديات قبل المشاركة :::::::::::::::::::::::::::..
..:: هدفنا الأول والأخير تحقيق التواصل بين كافة الطلبة الأساتذة عن طريق الإفادة والاستفادة ::::::..
..:::::::::::::::::::::::::::::: والله من وراء القصد ::::::::::::::::::::::::::::::::..
المركز التربوي الجهوي بوجدة
..::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::..
..:::::::::::::::: الســـــلام عليكــــم ورحمـــــة الله وبركاتــــــه ::::::::::::::::::::::::::::::..
..:::::::::::::: منتديــــات الطلبـــة الأساتــــذة ترحـــب بكــــــم ::::::::::::::::::::::::::::..
..::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::..
..::::::::::::: فضلا سجل(ي) نفسك بالمنتديات قبل المشاركة :::::::::::::::::::::::::::..
..:: هدفنا الأول والأخير تحقيق التواصل بين كافة الطلبة الأساتذة عن طريق الإفادة والاستفادة ::::::..
..:::::::::::::::::::::::::::::: والله من وراء القصد ::::::::::::::::::::::::::::::::..
المركز التربوي الجهوي بوجدة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


الموسم الدراسي 2011 ـــ 2012
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 ورقة عمل تحت عنوان: أساسيات منهج تدريس فقه القضايا المعاصرة، من خلال ثلاثة مداخل تربوية "الجزء الأول"

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
sadki
أستاذ بالمركز التربوي
أستاذ بالمركز التربوي
sadki


عدد المساهمات : 8
تاريخ التسجيل : 23/11/2011

ورقة عمل تحت عنوان:  أساسيات منهج تدريس فقه القضايا المعاصرة، من خلال ثلاثة مداخل تربوية "الجزء الأول" Empty
مُساهمةموضوع: ورقة عمل تحت عنوان: أساسيات منهج تدريس فقه القضايا المعاصرة، من خلال ثلاثة مداخل تربوية "الجزء الأول"   ورقة عمل تحت عنوان:  أساسيات منهج تدريس فقه القضايا المعاصرة، من خلال ثلاثة مداخل تربوية "الجزء الأول" I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 15, 2011 6:51 am

مقدمة
تستوقفنا جملة من الإشكالات عند الحديث عن تدريس فقه القضايا المعاصرة، بالجامعات التي تعنى بتعليم العلوم الشرعية عموماً، أو بالجامعات السعودية على وجه الخصوص –سواء كنا نعني بفقه القضايا المعاصرة مادة دراسية معينة، أو مجموعة نماذج وقضايا مبثوثة في برنامج الفقه، أو تخصصاً بسلك دراسي جامعي-، أبرز تلك الإشكالات ما يأتي:
o ما علاقة فقه القضايا المعاصرة بمباحث الفقه عموماً؟ وهل لفقه القضايا المعاصرة طبيعة متميزة تستدعي إيجاد منهج خاص بتدريسها؟
o هل يحسن أن ينظر في منهج تدريس فقه القضايا المعاصرة بشكل مستقل عن منهج تدريس الفقه والعلوم الشرعية عموماً؟
إن الذي يدعونا إلى النظر في تلكم الإشكالات، هو علمنا أن فقه القضايا المعاصرة جزء من الفقه، سواء من حيث طبيعته المعرفية، أو من حيث منهج استنباطه، لأن الفقه كله في أصله ينشأ معاصراً للأسئلة والوقائع التي تطرأ في حياة الفرد والمجتمع، فيتصدى لها الفقهاء بالبحث والاستنباط والفتوى.
فإذا كان الفقه المعاصر جزءاً من علم الفقه، فإن منهج تدريسه بالتبعية لا ينفك عن منهج تدريس الفقه عموماً، فالفرع تابع للأصل في حكمه؛ وعليه فإن البحث في منهج تدريس فقه القضايا المعاصرة، لا يخرج عن مسألة إصلاح منهج تدريس الفقه بشكل عام، ثم بعد ذلك النظر إلى الخصوصيات التي يتميز بها الفقه المعاصر من أجل أن تؤخذ بعين الاعتبار أثناء تقعيد المنهج التربوي.
سأعمل أولاً على بيان المرتكزات الأساسية في إصلاح منهج تدريس الفقه، وذلك من خلال استجلاء الطبيعة المعرفية للفقه، ثم إبراز الأثر التربوي الذي ينبغي أن تتركه طبيعة الفقه في منهج تدريسه، ثم أبين أهم خصائص فقه القضايا المعاصرة، لأخلص إلى اقتراح ثلاثة مداخل تربوية لتدريس الفقه وقضاياه المعاصرة، ونظراً لأهمية البرنامج الفقهي، وما يتعلق به من مسائل سأفرد له فصلاً مستقلاً.
1. نظرات في إصلاح تدريس الفقه
أساس إصلاح منهج تدريس الفقه، هو النظرة الصحيحة لهذا المجال المعرفي، فيما يرتبط بحقيقته وأهدافه والوظائف التي ينتهض بها، إذ لا يصح بحال أن يكون الفعل التربوي، أي عملية التدريس مناقضاً لطبيعة المادة المدرسة؛ لأنه سيكون -من حيث لا يشعر- وسيلة لإعاقة نمو ذلك العلم، أو عدم وصوله لأغراضه الصحيحة، بل المفترض في التعليم لفن من الفنون، أن يكون موافقاً لماهية ذلك الفن. بناءً على هذا الملحظ، يتوجّب علينا التساؤل عن ماهية الفقه، وأهداف تدريسه، وعن الوظائف التي يُعنى بتحقيقها؛ وما تحصّل لدينا من إجابات ينبغي استثماره في وضع المنهاج التربوي، والحرص على عدم مخالفته في النظام التعليمي. بعبارة أخرى أن تكون تلك الإجابات حول طبيعة العلم ووظائفه، معالم وأمارات تهدي التدريسَ سُبل النجاح، ومسالك الرشاد.
السؤال عن ماهية الفقه، ليس المراد منه المعنى الاصطلاحي ذاته، ولكن ما يترتّب عليه من اعتبارات وقضايا مؤثرة في مجال التدريس. لقد تواضعوا على تعريف الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية؛ ويمكننا استخلاص بعض القضايا من هذا التعريف، تفيد في توجيه التعليم وجهة صحيحة: القضية الأولى تتعلق بالطبيعة المعرفية للفقه، وتُشير إليها لفظة "المكتسب". والقضية الثانية تتعلق بوظائف الفقه، ويمكن استخلاصها من لفظة "العملية".

أ‌. الطبيعة المعرفية للفقه
يُستفاد من التعريف المذكور آنفاً، أن الفقه علم مكتسب بالاستدلال والنظر الصحيح في الأدلة، قال الجرجاني شارحاً التعريف: "وهو علم مستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج فيه إلى النظر والتأمل، ولهذا لا يجوز أن يُسمّى الله تعالى فقيهاً لأنه لا يخفى عليه شيء."
ومكمن الجودة والقوة في التعريف أنه عرّف الفقه بمنهجه وليس بموضوعه، ومن ذلك فإن الفقه ليس مجرد أقوال سابقة يكفي استقصاؤها وحفظها، وإنما هو حصيلة الجهد المنظم وفق منهج واضح يتوخى استثمار مجموعة من الخبرات والمعارف، والتنسيق بينها للوصول إلى تقرير الحكم الشرعي.
فهذه هي حقيقة الفقه، وهذه هي طبيعته المعرفية، فإذا ثبت هذا الأمر، فإنه لا يصح أن يسود في الدرس الفقهي التصوّر بأن الفقه معرفة جاهزة ومنظمة، وأن دور الأستاذ هو حسن نقلها إلى الطالب، لأن هذا داعٍ من دواعي الجمود والتقليد والانحسار في أقوال السابقين، في حين أن الفقه في أصله وحقيقته اجتهاد ونظر وابتكار، وإذا كان كذلك فهو لا يكون إلا معاصراً ضرورة، لأن المجتهد سينظر نظراً مستقلا في القضية الفقهية وفق ما استجمع من نصوص الشريعة، وما تحصل لديه من فهم للواقع وقرائن الحال، وما استجد من وسائل البحث والنظر، وحينذاك إما أن يقر قولاً فقهياً سابقاً، فيكون مجتهداً متبعاً لا مقلداً، وإما أن ينشئ قولاً جديداً لم يقل به السابقون في ما استجد من القضايا.
ب‌. تنوع وظائف الفقه
نستفيد وظائف الفقه، بطريق الإشارة، من لفظة "العملية" الواردة في تعريف الفقه، فأحكام الفقه تتعلق بأفعال المكلفين التي يأتونها بجوارهم، فيخرج منها الاعتقاد والخلق؛ وبذلك يكون الفقه من ناحية موضوعه هو منظومة القوانين التي تحكم السلوك البشري، حظراً أو إباحةً أو تخييراً وما يقترن بذلك من بيان الشروط والأسباب والكيفيات والأحوال... والسلوك البشري، قد ننظر إليه نظراً مفرداً، أي عمل الشخص في خاصة نفسه؛ وقد ننظر إليه نظراً مقيداً بالجماعة التي تسري فيها الأحكام الشرعية؛ وقد ننظر إليه نظراً مطلقاً أي السلوك الإنساني المجرّد عن التقييد بشخص أو بطائفة.... من هذه الأنظار الثلاثة يمكن أن نستخلص ثلاث وظائف للفقه:
الأولى: الوظيفة الفردية، أي مخاطبة الفرد المسلم بالأحكام الفقهية استقلالاً، لينصلح شأنه ويعلم ما يجزئه من فقه لتصح عباداته، ومعاملاته وسائر أعماله.
الثانية: الوظيفة الاجتماعية، أي مخاطبة الأمة المسلمة بفروع الشريعة، لتنتهض بالمقاصد الشرعية بشكل جماعي يكون فيه التعاون على البر والتقوى.
الثالثة: الوظيفة العالمية، أي مخاطبة مطلق الإنسان بفروع الفقه، باعتبارها نظاماً سامياً مؤيداً بالوحي الإلهي، وموجهاً لهداية كل الناس.
والملاحظ أن الفقه الإسلامي قد أولى الوظيفة الفردية اهتماماً كبيراً في طريقة عرض الأحكام، حيث كان اهتمام الفقهاء والمؤلفين منهم خصوصاً، ببيان ما يحتاجه المسلم الفرد من أحكام عملية في مختلف مناشط الحياة، سواء في شؤون العبادة أو المبادلات المالية أو قضايا الأسرة أو أحكام الجنايات...
وهذا الاختيار في تنظيم الفقه وعرض مسائله، كان له ما يسوّغه في التاريخ الماضي، حيث كان المقصد الأساسي هو إصلاح الأفراد وتعريفهم حدود الله تعالى وتلبية حاجاتهم من الفتاوى والأقضية، وكان ذلك يفي بالغرض من الفقه، وإلى جانب ذلك تتولى السلطة الحاكمة التطبيق العملي لمقتضيات الشريعة. وبسبب ذلك انطبع تدريس الفقه بهذه السمة التي تغلب فيها الوظيفة الفردية للفقه الإسلامي.
ويبدو أن الأحوال قد تغيّرت في الزمن المعاصر عما كانت عليه سابقاً، "فلما كانت الدولة الإسلامية الحديثة متأثرة في كثير من مناطق العالم الإسلامي بالدولة الغربية في انبنائها على العلمانية الفاصلة بين الدين والدولة، فإن ما نشأ عن ذلك من تقصير الدولة في رعاية الشريعة الإسلامية بالإنجاز في كثير من مجالات الحياة، أوقع في النفوس أن التقصير في إنجاز الشريعة جملة هو من مسؤولية الدولة وحدها، وظل كثير من الأفراد والجماعات يتفصّون من مسؤولياتهم الفردية والجماعية في تطبيق الشريعة فيما هو مناط بعهدتهم من الأحكام...
والحقيقة أن إنجاز الشريعة في الحياة الاجتماعية لا يتم إلا بجهود جماعية تقوم فيه الأمة بدور هام كما كانت تقوم به في السابق..."
يهمنا في هذا السياق، الدور الذي ينبغي أن تقوم به مؤسسة الجامعة، وما كان في معناها من المعاهد الشرعية والمدارس التي تعنى بتدريس الفقه، فإن مسؤوليتها في نشر الوعي بضرورة تطبيق مقتضيات الشريعة، وفي تهييء أحكامها للتنـزيل على الواقع، آكد وأدعى مما يقع على عاتق ما عداها من المؤسسات والهيآت.
2. أثر حقيقة الفقه في منهج تدريسه
تبعاً لكُنه الفقه وماهيته، ينبغي أن يتسم الدرس الفقهي المنشود، بسمات جديدة تؤهل الطالب للوصول إلى المعرفة الفقهية، ومن أبرز تلك السمات ما يلي:
أ‌. التركيز على فقه اجتهادي
للوصول إلى هذا المطلب، لابد أن يتبوّأ الفقه الإسلامي منـزلة الرأس ضمن منظومة العلوم الشرعية، باعتباره أهم المواد، ولأنه الثمرة المرجوة من الدراسة، وأن غيره من وحدات العلم الشرعي، إنما هي وسائل إليه، ومؤيدات له، ينبغي تكييفها واختيارها حسب ما يخدم الفقه والتفقّه.
ثم لابد أن يترسّخ لدى الطالب أن الفقه هو ما سينتجُه من خلال جُهده ونظره المستقل، أما ما يشتغل به من أقوال ومعارف ومذاهب خلال مرحلة الطلب، إنما هو تدريب وممارسة فقهية تحت نظر أستاذه.
من جهة أخرى، فإن الفروع الفقهية التي يحفظها الطالب ويتمرّس بها أثناء الدروس، ينبغي أن تُتناول في سياق اجتهادي، أي أن يُعرَّف المتعلمُ أدلة الحكم من نصوص الشريعة، ومستندات القائل به من الأصول والقواعد، وجوابه عن المخالفين له... من أجل أن يتلقّى الحكم الفقهي ومنهج الوصول إليه في الوقت ذاته.
إذا كان التعليم على هذه الصفة، فإن الطالب أثناء حصة الدرس يكون ممارساً للفقه تأصيلاً واستدلالاً ونقداً وترجيحاً وتطبيقاً... وليس متلقياً لأحكامه فقط، ويَغْدُوَ بعد حصة الدرس متبعاً لقول فقهي وليس مقلداً له، لأنه أخذه عن دليل ونظر، ولم يأخذه لمجرد الثقة بقائله، أو لأنه القول المعتمد عند أهل بلده، أو لأنه لم يعرف قولاً غيره.
ولك أن تقارن نظرة الإمام المازري إلى طبيعة الفقه، وهو يدرّب طلبته على تفسير النصوص الشرعية واقتباس الأحكام الشرعية منها -حين كان التركيز على الطبيعة الاجتهادية للفقه- بنظرة الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر المزكلدي عالم فاس، الذي كان يحفظ المدونة ويُمليها حفظاً، ويُملي ألفاظ شراحها من غير تكلف، ويبيّن مآخذهم وأنهم إنما شرحوا أولها بآخرها وآخرها بأولها، ويقول: ما نـزل حُكم من السماء إلا وهو في المدونة. ومثل هذا لم يكن إلا عندما أصبح الفقه يؤخذ تقليداً.
ساد في العصور المتأخرة النظر إلى الفقه باعتباره معارف جاهزة، وكون مباحثه منضبطة، وأن الجهد ينبغي أن ينصرف إلى الإحاطة بذلك، وفي مثل هذا قال علاء الدين الحصكفي (توفي 1088ﻫ): "العلوم ثلاثة أقسام: علم نضج وما احترق، وهو علم النحو والأصول. وعلم ما نضج وما احترق وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق، وهو علم الحديث والفقه".
وقد وضح ابن عابدين المراد من كلمتي "نضج" و"احترق" بقوله: "المراد بنضج العلم: تقرير قواعده وتفريع فروعه، وتوضيح مسائله، والمراد باحتراقه: بلوغه النهاية في ذلك... (قوله: علم الفقه) لأن حوادث الخلائق على اختلاف مواقعها وأشتاتها مرموقة بعينها أو ما يدل عليها بل قد تكلم الفقهاء على أمور لا تقع أصلا، أو تقع نادراً، وأما ما لم يكن منصوصاً فنادر وقد يكون منصوصاً غير أن الناظر يقصر عن البحث عن محله، أو عن فهم ما يفيده مما هو منصوص بمفهوم أو منطوق، أو يقال: المراد بالفقه ما يشمل مذهبنا وغيره فإنه المعنيّ لا يقبل الزيادة أصلا، فإنه لا يجوز إحداث قول خارج عن المذاهب الأربعة."
فانظر كيف اعتبر الفقه علماً نضج واحترق، إلى درجة أنه منع التفقه المفضي إلى الزيادة على ما استقر في المذاهب الأربعة. وأمثال هاته المقولات التي ظهرت في عهود الركود والتقليد والتعصب المذهبي، أسهمت بحظ وافر في تعطيل النظر الفقهي وجموده، فأصبح مفهوم الفقه هو القول السابق من عالم تحْصُل الثقة به، بعد أن كان اجتهاداً له منهج خاص ومراحل معلومة، تُستدعى خلالها مختلف العلوم والمعارف وينبني بعضها على بعض لتوصل إلى الثمرة الفقهية.
إن منهج التدريس وطيد الصلة بمنهج العلم المدرَّس، فالأول فرع عن الثاني، لأجل ذلك فإنه لما استقر في الأذهان أن الفقه علم يتسم بكونه معطى جاهزاً وثابتاً وسابقاً عن المتعلم، فإن منهج تدريسه اتسم بالتبعية، بالتلقين والحفظ لما في بطون الكتب وتتبُّع مسائله واصطلاحاته وأمثلته... شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وتناسلت الشروح والمختصرات والحواشي على منوال واحد لا ترى فيها التجدد والارتقاء، ولا تلمس الفوارق المعرفية أو المنهجية التي قد تمليها ضرورة اختلاف الأزمان والأماكن والأحوال.
ب‌. تجاوز المذهبية الضيقة
إن طبيعة الفقه المعرفية، تأبى أن يكون علماً يؤخذ تقليداً، بل الصفة الاجتهادية لصيقة به، وإلا لما سمي فقهاً؛ تأسيساً على ذلك، لا يصح أن يكون فقهاً مذهبياً ابتداءً، بل ينبغي أن يكون التزام المذاهب انتهاءً. معنى ذلك أن التدريس إذا التزم مذهباً معيناً واقتصر عليه وسكت عن المذاهب الأخرى، لكان ذلك تكريساً للتقليد المحض، وإقصاءً لملكات التفقّه الحقيقية، وهذا لا ينسجم مع ما ذكرنا من الطبيعة الاجتهادية للفقه. أما إذا اتسعت رحاب التعليم لمختلف الآراء والمذاهب مع المُقارنة بينها والترجيح لأقواها، لكان ذلك عاملاً على قوة النظر وجودة القريحة. ثم إنه لا يفضي بالضرورة إلى إضعاف المذهب وهدم أركانه، بل على العكس تماماً، سيؤدي إلى التمذهب عن دليل واتباع للأرجح، مع احتفاظ الطالب بشخصيته النقدية المستقلة، وهذا سيخدم المذهب خدمة جُلى كما خدمه أعلام الفقهاء المتقدمين في كل مذهب.
ولعل سائلاً يسأل: إذا كان طالب الفقه مبتدئاً، فإنه لا يقتدر على دراسة الخلاف، ومعرفة أقوال المذاهب، لذلك فالأنسب له أن يُقْصِرَه أستاذه على تعلّم فروع مذهب معين، فكيف يتجاوز الدرس قضية المذهبية بالنسبة للمبتدئين؟
الجواب في نظري المتواضع، أن الطالب إذا كان دون رتبة الاقتدار على دراسة الاختلاف والتمييز بين الأقوال وإدراك تفاوت أدلتها والترجيح بينها، فإنه لا يصح أن ينوب عنه أستاذه في ذلك ويختار له من الاختلاف ما يشاء، سواء كان الاختيار من مذهب واحد أو من مذاهب متعددة؛ لأنه إن فعل ذلك فقد غرّر بتلميذه، حيث لقنه فروعاً فقهية ظاهرها أنه لا اختلاف فيها، فإذا ارتقى الطالب واطلع على الخلاف في المسائل المدروسة، فسيشق عليه أمر التعلّم، لأنه كان يظن أن ما تعلمه هو الحقيقة الكاملة، ثم تبيّن له أخيراً أنه جزء الحقيقة وليس كمالها، ومعلوم بالتجربة أن تصحيح التمثلات السابقة أشق على النفس من تحصيل التعلمات الجديدة، كما قد يكون في التعرّف على ما في المسألة من اختلاف نقضاً لدراسته السابقة، إذا اطلع على وجوه وأدلة يعتقد رجحانها على ما اعتقده سالِفاً، ثم بأي معيار يختار له الأستاذ من الاختلاف، أبمعيار الرجحان أم الشهرة أم الظهور، أم بما به العمل، أم ما سهُل مأخذه... والمقام هنا مقام تعليم وليس مقام فتوى؛ وما أدق قولة ابن أبي زيد القيرواني في هذا الصدد، فإنه حين ألف "النوادر والزيادات" وكان كتاباً مليئاً بالاختلافات -داخل المذهب المالكي- علم أن ذلك لا يصلح للمبتدئين، فقال في مقدمة الكتاب: "ولا يسَعُ الاختيار من الاختلاف للمتعلم ولا للمقصّر، ومن لم يكن فيه مَحملُ الاختيار للقول لتقصيره، فله في اختيار المتعَقّبين من أصحابنا من نقادهم مَقْنَع." فهذه قاعدة جليلة سطَّرها الشيخ ابن أبي زيد، فإنه لا يحسن الاختيار من الاختلاف لمن لم تكن له القدرة على الترجيح بين الأقوال، بل يُكتفى معه بدراسة المتفق عليه من الأقوال، ويُسكتُ عن الخلاف حتى يتأهل له.
غير أن المتفق عليه في نظري هو أحكام الشريعة المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية بطريقة فيها نوع من التمرين على فهم النصوص والجمع بينها واقتباس الأحكام منها بقدر المستطاع، لتكون تلك الطريقة منـزلة دنيا تهيّئ الطالب إلى ما بعدها من المنازل الأكثر عمقاً وتفصيلاً.
أما في نظر الشيخ ابن أبي زيد، فإن المتفق عليه، هو ما اختاره نقاد المذهب من الأقوال المعتمدة، فَيَلْتَزِمها الطالب إذا كان دون مستوى النظر في الاختلاف.
والمستند الذي أعتمد عليه في هذا الرأي، هو أن الطالب إذا ابتدأ دراسته مقلِّداً، فإنه من الصعوبة بمكان أن يُنْهِيَها مُجتهداً.
بناءً على ما سبق فإنه ينبغي أن يتحرّر الدرس الفقهي من المذهبية المنغلقة، وذلك من خلال دراسة كافة المذاهب على قدم المساواة، وإعطاء القيمة العلمية للأقوال ذات الأدلة القوية، أما الأقوال الضعيفة والمتجاوزة، فينبغي إهمالها ولو كانت من المذهب السائد في البلد، لأنها ستصبح إرهاقا زائداً للطالب. والمطلوب منه ليس معرفة كافة ما قيل سابقاً ولكن أقوى ما قيل ودليل القول لتترسخ له ملكة الاستدلال وقوة النظر الفقهي. ويقتصر الطالب على موضع الفائدة وما فيه اشتغال ذاتي له، أما كثرة النقول والشواهد والتبحّر في التعاريف وتفصيل الأقوال بغير تمحيص بين الضعيف والقوي فلا فائدة فيه.
ج‌. التركيز على فقه اجتماعي
الصفة الاجتماعية للفقه الإسلامي، خاصية تُمليها ضرورة العصر، لما أشرنا إليه من الحاجة إلى تناول الفقه في سياق يُسهّل تنـزّله على قضايا المجتمع المعاصر، وهي قبل ذلك إحدى خواص الدين الإسلامي بشكل عام.
إن الطبيعة الاجتماعية للفقه الإسلامي، ينبغي أن تترك آثارها على مستوى الإنجاز التربوي، لما بين طبيعة العلم ومنهج تدريسه من التلازم والتأثير المتبادل. وأوجز أهم الآثار لتلك الخاصية على الدرس الفقهي فيما يلي:
* التأثير على اختيار المادة العلمية للفقه الموجّهة للطلاب، حيث ينبغي أن تكون مرتبطة بقضايا المجتمع، ومؤسسة على إشكالاته واحتياجاته.
* التأثير على تنظيم المادة العلمية، خصوصاً ما يتعلق بوضع المقدمات للدروس والمداخل المقصدية للمباحث المدرَّسة، فبدل الاهتمام بالمعرفة الفقهية ومنطقها الداخلي وترابط فروعها، يكون الاهتمام منصبّاً على ارتباط تلك المعرفة بالوضع الاجتماعي، وكيف تؤثر في إصلاح أحواله، وما المصالح المرجوّة من تقرير بعض أحكامها.
* التأثير على طرائق التدريس من حيث الربط بين الجوانب النظرية للدرس الفقهي، والجوانب التطبيقية، تدريباً للطالب على تكييف القضايا الاجتماعية واستصدار الأحكام بشأنها، والقدرة على تطبيق الحكم على محله؛ فعند تدريس أبواب الزكاة مثلاً، لا يكون الاقتصار على المباحث النظرية كمعرفة شروط الزكاة والأموال التي تخرج منها، ومقاديرها... بل لابد من تعزيز ذلك بالاشتغال العملي كالتدرّب على حساب الزكاة المترتبة على شركة بمواصفات خاصة، ونحو ذلك.
* التأثير على أنشطة البحث والتعلّم الذاتي المرتبط بالفقه، كتوجيه الطلبة إلى إنجاز مواضيع وبحوث تتعلق بدراسة أحوال المجتمع ورصد معطياته، عن طريق التتبّع والملاحظة واستعمال الاستبيانات وما شاكلها من أساليب البحوث الميدانية، ثم ربط النتائج بالدراسة الفقهية، وبذلك تتنمى لديهم ملكات التحليل والاستنتاج والتطبيق والتقويم المطلوبة في الدرس الفقهي.
* التأثير على أساليب التقويم، بحيث لا يقف الامتحان عند مستوى قياس جوانب التحصيل المعرفي وحفظ المسائل الفقهية، بل يضيف إلى ذلك اختبار القدرة على ربط الرصيد المعرفي بمتطلبات المجتمع، ومدى التمكّن من تطبيق نتائج الدراسة الفقهية على نماذج وحالات اجتماعية معينة.
إن حضور الصفة الاجتماعية للفقه إبّان حصة الدرس، سيُبْرز المقاصد الشرعية المتوخاة من المباحث الفقهية المدروسة، وسيجلّي للطلبة الجوانب العملية والنفعية لما تناولوه بالبحث والدراسة من مسائل الفقه.
د. التركيز على عالمية الفقه
تعرّض مفهوم الفقه للانحسار والضمور مرات عديدة، وأسهمت عوامل كثيرة في تضييق أفقه؛ فأول ذلك الانحسار، اقتضته بعض الاعتبارات المدرسية/الأكاديمية، فانتقل من المعنى العام إلى المعنى الاصطلاحي الخاص، الأول كان يعني الفقه في الدين بعمومه وشموله ولا يقتصر على الفقه التشريعي، شمولية يقتضيها شمول مفهوم الدين في الإسلام، وهو ما قد نطلق عليه مصطلح الفقه الحضاري، والفقه التشريعي كيان من كياناته. وإلى هذا المعنى يشير قول الله تعالى: [وَمَا كَانَ الْمُومِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُم إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة: 123).
ثم انتقل الفقه من هداية عامة للبشرية تبعاً لهداية الإسلام بشكل عام، إلى نظام قانوني لا يعرفه غير المسلمين، ولا يتجاوز بلدانهم. هذا التحوّل فرضته أسباب حضارية كالعلاقة بين المسلمين وغيرهم وموازين القوى عند الطرفين...
وزاد التضييق والانكماش مع ازدياد التدهور الحضاري للمسلمين، فأقصي الفقه الإسلامي عن التطبيق وأبدل في أكثر البلاد الإسلامية بالقوانين الوضعية، فأصبح منحصراً في بطون الكتب وفي المراكز العلمية التي تتولى تدريسه، ومن ذلك انتهى إلى أن لا يفهم اصطلاحاته ولا يتجاوب مع مناخه المعرفي، إلا من تخصص من الطلبة في دراسة العلوم الشرعية، وقليل من هؤلاء من يُحسن التعبير عن مسائله والتصوّر لمباحثه وأحكامه.
إذا كانت حالة الفقه على ما وصفتُ، فإن الدرس الفقهي مَعنيٌّ أصالة وابتداءً برفع الحصار عن المعرفة الفقهية، وإرجاعها إلى طبيعتها المنفتحة على عموم الإنسان، والشاملة لكل قضاياه -على الأقل السلوكية- ولكل اهتماماته على المستوى التشريعي. فليس من المعقول ولا من المشروع، أن تُدرّس نظريات القانون الوضْعي باعتبارها قيماً عالمية -وليس لها من الصفة العالمية إلا ما فرضه التغلّبُ الحضاري والإكراه السياسي- في حين يُدرّس الفقه الإسلامي في الحدود المحلية والتطبيق الفردي. وأسوأ من ذلك اعتباره معطى تاريخياً لا تعلّق له بالواقع ومعطيات العصر.
ينبغي النظر إلى المعرفة الفقهية على أنها قيمة علمية عامة، لأنها مؤيّدة بالوحي الإلهي المطلق، ومسدّدة بالأدلة القوية والمنهج السليم. وعليه، فأحكام الفقه ذات طبيعة عالمية وهي خلاص للعالم بأسره من مشاكله العويصة، فيلزم في درس الفقه الالتفات إلى هذه الحقيقة وعدم الذهول عنها في كل أطوار الدرس وفي معطياته ومعارفه، وممّا يُحقّق هذا الغرض في الإنجاز التربوي القضايا الآتية:
* وضع مداخل لدروس الفقه تُطلع الطلبة على الموجات الفكرية العالمية ومقارنتها بالنظرة الشرعية المتزنة، وربط الفقه بجذوره العقدية والمقاصدية ليكون الخطاب الفقهي متسماً بالشمولية والانفتاح على مختلف التخصصات والبيئات الثقافية.
* ربط الفقه بالقضايا العالمية، وإدراج الفقه المقارن بالقوانين الدولية ضمن الدروس. ولا بأس أن يتداول الدرس الفقهي الاصطلاحات القانونية والحقوقية الحديثة استعداداً لمخاطبة مختلف الدوائر الثقافية والعلمية محلياً ودولياً، لكي لا يبقى طالب الفقه محصوراً في دائرة ضيقة لا يفهم خطابه إلا زملاؤه في العلوم الشرعية. ويجدر التنبيه إلى ضرورة ضبط المفاهيم والمصطلحات، حتى لا يقع التجنّي على الحدود والاصطلاحات الفقهية القديمة، وكي لا تُحمَّل معاني لا تليق بها...
* تجديد الأمثلة الفقهية، واستمدادها من المعطيات العالمية المعاصرة، مع تطبيق المقتضيات الفقهية على بعض المشتركات الإنسانية بدَلَ قصْرِها على القضايا المحلية. فانظر الفارق بين أن نتناول قول النبي صلى الله عليه وسلم [المُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: المَاءِ وَالْكَلإِ وَالنَّارِ] ، على أنه يتضمن فروعاً فقهية تنظم شؤون البادية والعلاقات المالية والاجتماعية في وسط لم يعرف من التَّحضّر إلا أولياته.
وأن تدرسه باعتباره -فوق ما ذكر- يُحدّد نظاماً عالمياً في استغلال الموارد المائية ومصادر الطاقة، والمقدّرات الطبيعية، وما يتعلق بذلك من العلاقات الدولية والقضايا الراهنة. وقس على هذا المثال، ما تتناوله دروس الفقه من فروع ومسائل في مجال أحكام الطهارة والمطعم والمشرب، وعلاقة ذلك بقضايا الصحة ومشكلاتها العالمية، أو أحكام المعاملات المالية، وارتباطها بالتجارة والاقتصاد الوطني أو الدولي. أو أحكام الجنايات وتعلقها بالسِّلم الاجتماعي وقضايا الإجرام الفردي والجماعي والمحلي والدولي... وغير ذلك مما يفترض في الدرس الفقهي أن يعتني به، ويُوجِّه اهتمامات الطلاب إليه.
3. خصائص فقه القضايا المعاصرة
إن الفقه بحسبانه ملكة فائقة على النظر والبث في قضايا السلوك البشري وفق منهج شرعي منضبط، لا يحتمل إلا أن يكون اجتهاداً وتأصيلاً مواكباً لظروف وقوع النازلة، إذ لا ينبغي تأخر البيان عن وقت الحاجة، ومن ثمة لا يصح أن يكون الفقه إلا معاصراً؛ والتدريس لعلم الفقه ينبغي أن يستحضر هذه الطبيعة المعرفية للفقه، فإن لا يحسن أن يتناول التدريس مسائل الفقه في سياق تاريخي صرف، من خلال سرد الأقوال ونسبتها إلى القائلين بها وبيان مستنداتها الفقهية...، بل يلزم أن تلقى على الطلبة في سياق اجتهادي يجعلهم يعيدون إنتاج الأقوال الفقهية، ويستحضرون أصولها ومنطق الاستدلال عليها، ثم يعالجون ما استجد فيها من حيثيات ومعطيات لم تكن عند السابقين.
بهذا الاعتبار لا يبقى باب من أبواب الفقه، ولا مبحث من مباحثه، إلا ويقتضي نظراً جديداً، على مستوى الاجتهاد، ثم على مستوى التدريس بالتبعية لذلك. وقد يظهر للوهلة الأولى أن أغلب مسائل الفقه قد قتلت بحثاً بما لا مزيد عليه، خاصة الأبواب التي تكثر فيها النصوص الشرعية كالعبادات وأحكام الأسرة، غير أن متغيرات الواقع والثورة العلمية المعاصرة، تفرض على العقل الفقهي اجتهاداً متجدداً، كما تفرض على العقل التربوي تجديد مناهج التدريس تباعاً.
المعاصرة فيما ذكرت تنصرف إلى تجديد النظر في قضايا الفقه المبحوثة سلفاً، غير أن المعاصرة تطلق –من باب أولى- على القضايا المستجدة، التي ليس للفقهاء الماضين أي قول فيها، فينبري لها الفقهاء المعاصرون بالاجتهاد والفتوى.
إن تدريس القضايا الفقهية المعاصرة –بالمعنى الثاني- لا يختلف كثيراً عن تدريس الفقه عموماً، إلا أنه ينبغي الانتباه إلى بعض خصائص القضايا المستجدة، مما يقتضي مراعاة تميزها في الدرس الفقهي، من أهم تلك الخصائص ما يأتي:
o أنها قضايا لا نظير لها في الفقه الموروث، بل ينظر فيها المعاصرون نظراً مستقلاً جديداً، وهي لذلك تكون قيد الدراسة والبحث وتوالي الإنتاجات والإصدارات بشأنها، فينشأ عن ذلك بعض الصعوبات التربوية نظراً لكون المادة العلمية المدرسة غير مكتملة، وقابلة للإضافة والتعديل المستمر.
o قلة المصادر والمراجع المتضمنة للفقه المعاصر بالمقارنة مع الموسوعات والكتب الفقهية المورثة، أضف إلى ذلك أن بعض الدراسات ليس لها من المعاصرة إلا الاسم، بحيث لا تنفك عن الأقوال التراثية التي لا تعلق لها بالواقع الراهن، وقد تكون بعض البحوث غير محررة ولا مستوفية.
o قد تخرج الاجتهادات في القضايا المعاصرة عن المذهب المعتمد، ولا تنضبط لأصول واضحة في الاستنباط، مما يثير مشكلة لدى طالب العلم عند اعتمادها في التدريس، لأن المأمول من طالب الفقه أن يتمكن من منهج واضح في التفقه والاستدلال، لا أن يتلقى أقوالا مبثوثة وفتاوى متفرقة لا تخدم ملكة الاجتهاد لديه.
o بعض القضايا الفقهية المعاصرة عبارة عن اجتهادات فردية وبعضها اجتهادات جماعية، كالفتاوى والقرارات الصادرة عن مجمعات الفقه الإسلامي، وتبعاً لذلك لا تكون في الغالب محسوبة على مذهب فقهي معين، ولا تعلم مرتبة القول الفقهي من حيث الرجحان والشهرة والضعف، بخلاف الأقوال المذهبية السالفة التي ضبطت وحررت وعرفت مراتبها.
o النظر في الكثير من القضايا المستجدة يحتاج علماً دقيقاً ببعض فروع العلوم التجريبية كالفلك والطب...أو العلوم الاجتماعية والإنسانية كالاقتصاد وعلم النفس...وذلك يقتضي تأهيلاً خاصاً لطلبة العلوم الشرعية، وإلا فإن الكثير من أمور العصر ستشكل عليهم ويضطرب فيها نظرهم.
إن المطلوب من المتفقه أن يحقق المعاصرة بمعنييها المذكورين، أي القدرة إعادة النظر في مسائل الفقه التراثي وفق ما استجد من أحوال وظروف ووسائل بحث، ثم التمكن من النظر المستقل في الوقائع الجديدة التي لا مثيل لها في مدونات الفقه الموروثة؛ ولا يتأتى ذلك إلا إذا استطاع التدريسُ الشرعي أن يحقق التكامل المعرفي بين فروع المعرفة، ويردم الهوة بين علم الفقه ومختلف المعارف والعلوم الطبيعية والإنسانية. يحتاج طالب الفقه إلى مدخلات علمية بنسب مدروسة، في كل مرحلة دراسية.
أ‌. ضرورة الوصل بين الفقه والمعارف العقلية
يرتبط الفقه برباط وثيق مع الكثير من العلوم والمعارف العقلية، "ونقصد بالمعرفة العقلية ما يكسبه العقل بنظره الذاتي من معارف وعلوم تتعلق بالكون أو بالإنسان." ذلك بأن مجال اشتغال الفقه هو العمل البشري، وهذا العمل واسع الأرجاء يشمل المجالات العبادية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية... ولا يكون الفقه متيناً مسدّداً إلا إذا نشأ عن تقدير صحيح وتصور جلي عن المجال الذي يشتغل فيه، فإذا كان مجال اشتغال الفقيه هو القضايا الأسرية، فإن ذلك يقتضي رصداً دقيقاً للعلاقات الاجتماعية ووعيا بطبيعتها ونتائجها، وإذا كان المجال هو المعاملات المالية والاقتصادية، فذلك يضطر الفقيه إلى معرفة صور التعاملات التجارية وطبيعة العقود وأساليب الاستثمار والتمويل والتوزيع، وقس على ذلك مختلف مجالات الاشتغال الفقهي.
إذا كان التدريس يرمي إلى تهييء الطلاب وتسليحهم بعُدّة معرفية ومنهجية متينة لمواجهة مشكلات عصرهم، فإنه لا غنى له عن الارتباط بالقضايا الراهنة والنهل من المعارف المستجدة، وتجاوز الكثير من القضايا التاريخية المرتبطة بظروف وأحوال لم يعد لها وجود في هذا الزمان.
وإذا كان الفقه مبنيا على غلبة الظن، فإن العلوم والمعارف بمختلف أنواعها تصبح بهذا الاعتبار، مفاتيح يستعملها الفقيه للكشف عن حقائق وتفاصيل القضايا التي يشتغل عليها، قال شهاب الدين القرافي "وكم يخفى على الفقيه والحاكم الحق في المسائل الكثيرة بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة، فينبغي لذوي الهمم العالية أن لا يتركوا الإطلاع على العلوم ما أمكنهم..."
ليس المقصود أن يكون طالب الفقه موسوعي المعرفة، لا يعرف التخصص، وإنما عليه أن يأخذ من كل علم ما تشتد الحاجة إليه عند الاشتغال الفقهي، فقد يقتصر من ذلك على النتيجة العلمية الصحيحة التي تُفيده في عمله الفقهي، دون الالتفات إلى طريقة الوصول إليها أو التبحّر في المعطيات والمعلومات، أي يتعامل طالب الفقه مع مختلف العلوم والمعارف بطريقة وظيفية، يجتني الفائدة التي يوظفها في الفقه ويقتصر على ذلك.
الوصل بين الفقه والعلوم الاجتماعية
تحدث طه جابر العلواني عن المسوغات التي تضطر الفقيه إلى اعتماد مناهج العلوم الاجتماعية في الدراسة الفقهية فقال: "الدراسات الاجتماعية المختلفة والتحليلات التي يقوم بها الناس تعدّ نوعاً من فقه الواقع، فهل للفقيه أن يتجاوز فقه الواقع ويقتصر مثلا على الفهم اللغوي أم لا؟! هذا السؤال يطرح على مجتهد اليوم، فهل اللغة وحدها كافية؟ والجواب: لا، فلابد من فقه الواقع...نحن نتحدث عن رفع الحرج وعن التكاليف وعن سدّ الذرائع وعن المصلحة وعن الاستحسان، هذه كلها لا نستطيع أن نعرفها دون أن نتعرف على هذا المحكوم عليه الذي هو الإنسان فرداً أو أسرة أو دولة أو قيادة، فهل أستطيع أن أستغني عن دراسة هذه الظواهر؟ هل أستطيع أن أستغني عن فهم هذا الواقع؟ لا يمكن للمجتهد أن يقول الحكم دون الرجوع إلى هذه الأشياء، ونستطيع أن نستدل على هذا من منهج الأصوليين أنفسهم... والناس قبل اليوم كانوا يعملون ببساطة فكان الإمام الشافعي يروح ويطوف بالقبائل ويستمع لهم ويبعث امرأة تسأل عن عاداتهن ويجمع هذه القضايا وهذا الاستبيان إذا أخذنا به في علومنا الاجتماعية لتطورت، أليس هذا منهجا من مناهج أصول الفقه، يجب أن يُضيفه الفقيه إلى منهجه ويعتبره جزءاً لا يتجزأ من منهجه"؟ إن الوقائع التي يُعالجها الفقه في عصرنا هذا "لم تعد معاملة بسيطة، وإنما أصبحت ظواهر معقدة...لابد أن يستعين بمختلف المناهج حتى يتعرف عليها..." نخلُص من هذا إلى ضرورة إدماج المناهج التطبيقية لعلم الاجتماع في الدرس الفقهي مثل الإحصاء والاستبيان وسبر الآراء...من أجل أن يكون الفقه مرتبطاً بالواقع الآني وتحمل أحكامه ضمانات الصحة والموثوقية العلمية.
الوصل بين الفقه والعلوم الطبيعية
وقد أشرت إلى ذلك من خلال الاقتباس من كلام الشهاب القرافي في الفروق، وأزيد هذه القضية إيضاحاً أكثر فيما يتعلق بالدرس الفقهي، إن الكثير من الفروع الفقهية التي ثبتت في المذاهب إنما قال بها أصحابها بناءً على فهم معيّن للوجود الطبيعي من حولهم، وقد كانت وسائلهم في كشف الحقائق المادية محدودة جداً، وتستبطن بعض الأخطاء التي كشفها العلم الطبيعي شيئاً فشيئاً، فهل يصح في هذا الزمان الذي تطورت فيه وسائل البحث، وأحرزت البشرية فتحاً علمياً غير مسبوق في رصد الظواهر الطبيعية وتفسيرها، أن ينحصر الفقه عند الملاحظات البدائية والتصورات غير العلمية؟!
إذا جئنا إلى فقه الطهارة مثلاً، وجدنا أبحاث الفقهاء الماضين في مواضيع مثل: بماذا ينجس الماء؟ سؤر الكلب، بماذا تكون طهارة الأعيان؟ حكم الجَلاّلة؟ مباحث الحيض والاستحاضة والنفاس وغير ذلك، تنبني على تقديرات وظنون حسب فهمهم العلمي المتاح في ذلك الزمان.
وفي وقتنا الحاضر كشف العلم عن خبايا الجراثيم وأنواعها، ونسبة التلوث الذي يحصل للماء بملاقاة بعض المواد، ومتى تكون ضارة ومتى لا تكون كذلك.
وكشف الطب الحديث عمّا كان مستوراً في قضايا الحيض، ميّز بين دم العادة الشهرية والدم الناتج عن أمراض الجهاز التناسلي، وأتاح لنا العلم بفضل من الله وتسخير منه، أن نعرف ما تنقله الحيوانات من أمراض للإنسان وسُبُل الوقاية من ذلك. وقد أصبحت هذه القضايا من المعلوم بالضرورة لأبناء هذا الزمان، ويتداولها الطلاب في المدارس والجامعات.
ثم بعد هذا كله يبقى الدرس الفقهي جامداً على الفروع الفقهية في باب الطهارة بحذافيرها، فنقرأ مثلا في الإشراف للقاضي عبد الوهاب في كتاب الأطعمة المسألة رقم 1858 قوله: "أكل الشاة الجَلاَّلة مكروه غير محرّم، وقال الثوري وأحمد بن حنبل: محرّم، ودليلنا قوله تعالى: [أحلّتْ لكم بهيمةُ الأنعام] (المائدة: 2)، واعتباراً بغير الجَلالة."
فهل قُدّر لطالب الفقه أن يجمد على نفس هذه الفروع، ويُبْقِيَ لهذا الاختلاف اعتباراً، ويلزم مذهبه، وهو يمتلك اليوم من العلوم الدقيقة التي تسمح له بالترجيح أو بإحداث قول مستجد؟! قطعاً لو امتلك السابقون مثل هذه العلوم والوسائل الجديدة لكانت أقوالهم شيئا آخر غير ما نتوارثه عنهم، فلم تُعطى لأبحاث نسبية صفة الثبات والإطلاقية؟!
وتأمّل كيف يُظلم الفقه الإسلامي على أيدي أبنائه، حين يُفصل عن المعارف الإنسانية الحديثة ومجريات الأحداث المعاصرة، فإن مسألة الجَلاَّلة هاته التي يتناولها طلاب الفقه في دائرة ضيقة لا تخرج عن أقوال مأثورة لا يعرفها غيرهم، تتعلق بشأنها قضية معاصرة طبقت الآفاق شهرة وتناولتها الأقلام من مختلف التخصصات والعلوم هي قضية جنون البقر وآثارها على الصحة البشرية.
هذه المستجدات في العلوم وفي مجريات الأحداث، ينبغي أن تترك بصماتها الواضحة في سير الدرس الفقهي وإلا غلب عليه الجمود وارتد إلى زمان غير زماننا يقول ابن قيم الجوزية في موضوع قريب من هذا: "فمهما تجدد العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِِه على عرف بلدك وسَلْهُ عن عُرْف بلده فأجْرِه عليه، وأفته به دون عُرف بلدك المذكور في كُتبك، قالوا فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين."
الوصل بين الفقه والدراسات المقارنة بالقوانين العالمية
أكتفي هنا بنقل نص يعبّر بجلاء عن فائدة إدراج الدراسات المقارنة في الدرس الفقهي، وهي فائدة نظرية وعملية، وصاحب النص أحد الأعلام البارزين في تنشيط الحركة الفقهية الإسلامية على عدة صعد، يقول: "تمتد هذه الحاجة –الدراسات المقارنة- لسدّ القانون المقارن، فلقد تقدّمت في الفترة الأخيرة الدراسات المقارنة لكافة الأنظمة القانونية من إسلامية ولاتينية وجرمانية وأنجلو-سكسونية... بل أصبحت دراسات القانون المقارن ضمن برامج دراسات كليات الحقوق في كثير من الجامعات... ويهمُّنا أن نُشير إلى أن الدراسات المقارنة لا تقتصر على الناحية النظرية، وإنما تمتد إلى الناحية العملية من جانبين: الجانب الأول هو الاتجاه المتزايد إلى توحيد قواعد القانون خاصة في ميدان القانون الخاص، كقواعد الشيك والسند الإذني وبيع البضائع... الجانب الثاني هو ما قرّره نظام محكمة العدل الدولية في المادة 38 من اعتبار المبادئ القانونية العامة المعترف بها من الأمم المتمدّنة مصدرا من مصادر القانون الدولي العام التي تطبقها محكمة العدل الدولية... ولعل توضيح هذين الجانبين العمليين على الصعيد العالمي لدراسة القانون المقارن يؤكد الأهمية البالغة والحاجة الماسة لدراسة الشريعة الإسلامية كنظام من النظم القانونية العالمية في نطاق هذه الدراسات المقارنة..."
نخلص مما سبق، إلى أن الفقه هو الثمرة العملية التي تتحصل للطالب بعد مراحل كثيرة، ومن خلال تجميع محصلات وفوائد مجموعة من العلوم الشرعية والإنسانية والطبيعية، وأن النظر إليه بحسبانه مادة علمية منفصلة عن غيرها من المعارف يُعدّ خطأ منهجياً يضرب حقيقة التفقه في مقتل.
وهكذا فإن باب المعاملات من الفقه، وطيد الصلة بعلم الاقتصاد المعاصر، وباب المناكحات شديد الارتباط بعلم الاجتماع، وباب الجنايات يحتاج إلى علم النفس، ومباحث الطهارة والحلال والحرام من المطعومات والمشروبات لا يستغني بحال عن أبحاث العلوم الطبيعية والطبية، وأبواب السياسة الشرعية محتاجة إلى علم السياسة ومعرفة القوانين الدولية...
ب‌. طرق تحقيق التكامل المعرفي في درس الفقه
لا يكون تطوير طرق تدريس الفقه كثير الجدوى، ما لم يُنظر إلى الأمر بصفة شمولية تستحضر علاقة الفقه بباقي فروع المعرفة، لذلك فإن من مقتضيات الرفع من جودة التفقّه، إبداع أشكال من التدريس تُحقِّق فكرة وحدة المعرفة وتكاملها. يمكن أن نطلق على الطرق التي تنتهض بهذا المطلب، اسم "الطرُق العلائقية"، لأنها تتناول الفقه في سياق علاقاته بوحدات العلم الشرعي الأخرى، وكذا علاقاته مع المجالات العلمية الإنسانية والطبيعية.
لقد حاول علماء التربية إيجاد سُبُل الوصل بين العلوم خلال حصة الدّرس، ليس بمجرّد التذكير النظري بهذه المسألة -التي قد لا يتصوّر المتعلم حقيقتها وفائدتها- ولكن بأساليب تطبيقية تنعكس على مجريات الدروس.
من المحاولات التطبيقية الأساسية لتجاوز الفصل بين المواد، ما سأذكره، بشيء من التفصيل، نقلاً عن أحد التربويين المعاصرين:
- المواد المترابطة، وفيها تظل الحواجز المصطنعة قائمة كما هي، بمعنى أن كل مادة دراسية يظل كتابها ومعلمها المتخصص في تلك المادة ولكن الفكرة الأساسية هنا هي بيان الصلات أو العلاقات الطولية والعرضية بين المواد الدراسية المختلفة... وقد يكون الربط عَرَضِيّاً، حيث يقوم به المعلم عَرَضاً وفي أثناء التدريس وعندما يشعر أن ثمة علاقة بين المادة التي يقوم بتدريسها أساساً وغيرها من المواد المنفصلة عن تلك المادة... وفي هذا المجال يستطيع المعلم أن يدرك مواطن الربط بين مواد من مجالات عديدة، وخاصة إذا ما استطاع أن يعرف مستويات تلاميذه وخبراتهم السابقة، ومن ثم يصبح هذا الأسلوب مدخلاً لاجتياز الفواصل بين المواد الدراسية في نواحٍ معينة... وهناك صورة أخرى من صور الربط هي الربط المنظم، وهو يعني وضع خطة تسير عملية التدريس على أساسها، وهذه الصورة تعد أكثر تطوراً من الربط العَرَضي إذ إنها تتطلب تنظيماً وإعدادا محكماً قبل مواجهة التلاميذ في مواقف تعليمية بمعنى أنها تعتمد على خطة يتم إعدادها مسبقاً... فالمهم في هذا الشأن هو أن نذكر أن القاعدة هي أن وضع خطة يتم بصورة تعاونية حيث يتم اختيار عدد من الموضوعات التي تتميّز بالشمول والتي سيدرسها التلاميذ وبالتالي يقوم كل معلم بتدريس الموضوعات الخاصة به، والتي تقع في مجال تخصصه...كما لابد أن يكون الفريق المشارك في وضع هذه الخطة وتنفيذها على درجة كبيرة من الوعي بأهمية هذا الأسلوب وقيمته التربوية ومغزاه لمسألة تعزيز فكرة تكامل المعرفة، وأن تكون مواطن الربط طبيعية ومنطقية وبعيدة عن الافتعال...
المواد المندمجة، وفيها ترفع الحواجز بين المواد الدراسية المنفصلة، وقد يكون ذلك بين مادتين أو أكثر في مجال دراسي واحد... وفي هذه الحالة تدمج المعارف المستمدة من أكثر من مادة لتكون مادة واحدة، ومن الطبيعي أن يقوم معلم واحد بتدريس هذه المادة المندمجة في صورتها الجديدة، ومن ثم يكون أقدر على بيان فكرة وحدة المعرفة وتكاملها...
المجالات الواسعة، وهي فكرة متطورة من فكرة الإدماج، فإذا كانت فكرة الإدماج تعني إزالة الحواجز بين عدد من المواد الدراسية التي تنتهي إلى مجال معيّن، فإن فكرة المجالات الواسعة تعني إزالة الحواجز بين عدد من المواد في مجالات عدّة... وقد يتطلب هذا الأمر إعادة تنظيم محتويات المواد الدراسية التي تنتهي إلى إطار واحد يتم فيه إعداد مواد تقوم على أساس هذه الفكرة... وتبع ذلك محاولات أخرى أكثر تطورا والتزاماً بفكرة المجالات الواسعة، حيث أدمجت المواد إدماجاً كليا بحيث أصبح من الصعب من وجهة نظر المتعلم أن يميّز ما ينتمي منها إلى مجال معين... ولكن المهم أن يدرك فكرة وحدة المعرفة وتكاملها..."
ويبدو أن الفقه من أنسب المعارف التي ينبغي أن تطبق عليها فكرة الوحدة المعرفية في أرقى صورها، نظراً لانفتاحه على عدة مجالات شرعية وإنسانية وطبيعية، ومن الأولوية بمكان أن يُبدأ بالتنسيق بين المواد الشرعية لتكون خادمة للاجتهاد الفقهي، من خلال الربط المنهجي بين المواد في السنة الدراسية الواحدة، وكذلك بين السنوات المختلفة، ليترقى الطالب من علم إلى علم ومن مرحلة إلى أخرى.
وفي سبيل تحقيق الدراسة العلائقية للفقه، يمكن الاستفادة من النموذج التربوي القائم على فكرة التكامل، وهي فكرة تعترف بوجود المواد المنفصلة كما تعترف بوجود حدود لكل مادة، ولكنها تتخطى هذه الحدود كلما دعت الضرورة إلى ذلك دون إدماج كامل.
من الأمثلة البارزة على طريقة التكامل، أن فقه الأسرة له ارتباط كبير بقضايا المجتمع والتحولات الطارئة عليه، وهذه تحتاج بحثاً اجتماعياً ورصداً دقيقاً يُمكّن من تفسير الواقع وتوقّع حركته المستقبلية، فمن أجل تلبية هذه الحاجات المعرفية والمنهجية يمكن أن يتلقى طلبة الفقه دروساً مركزة في علم الاجتماع بقدر الحاجة إما بانتقالهم إلى الكليات المختصة في ذلك أو باستقدام أستاذ متخصص في علم الاجتماع. وإذا كان الطلبة بصدد فقه المعاملات المالية التي لها تعلُّق بعلم الاقتصاد، أحالهم النظام التربوي على المتخصصين في هذا المجال العلمي، للتزوّد منه بما يخدم التفقّه ويؤسّسُه على أركان متينة، وقس على هذا باقي الأبواب الفقهية.
4. مداخل تدريس الفقه الإسلامي وقضاياه المعاصرة
المنهج التربوي تتوزّعه ثلاثة اتجاهات عامة في التربية: اتجاه يتخذ المتعلم أساساً لبناء النظرية التربوية حيث ينطلق من احتياجات المتعلم وميولاته، ويُراعي قدراته العقلية واستعداداته الفطرية... واتجاه ثانٍ ينطلق من المعرفة المنظمة تنظيماً منطقياً، فيحاول تلقينها للمتعلمين مراعياً منطقها الداخلي والتدرج في اكتسابها من المفرد إلى المركب ومن الجزئي إلى العام... واتجاه ثالث ينطلق من المجتمع وحاجاته ومتطلباته، ويحاول تهييء الطلاب للتكيّف مع الواقع، ومعالجة قضاياه ومشاكله بمختلف أدوات البحث والدراسة، فتكون المعرفة المكتسبة منبثقة من الواقع المعيش.
تقل الحاجة إلى الاتجاه الأول في التدريس الجامعي، نظراً لقدرة الطالب على الطلب العلمي المستقل، ويبقى فقط توجيه الأستاذ وإفادته بالمنهج القويم والخبرات العلمية... ويمكن الاستفادة من هذا الاتجاه الأول فقط فيما يتعلق بالقدرات العقلية للطلبة، ومراعاة التدرّج في البناء المعرفي عبر سنوات الطلب.
وعلى كل حال، لا ينبغي التفريط في الثراء التربوي النظري، أو في محصّلاته العملية، فإن التخطيط البيداغوجي لدرس الفقه وفق اتجاه من الاتجاهات المذكورة، يُفيدنا في تنويع الطرق العملية للتدريس، بما في ذلك مراحل الدرس وأساليبه وعُدَّته المنهجية والوسائل المعتمدة فيه.
من منطلق التنويع والإثراء العملي، وكذا وفاءً بمطلب إعداد الطلاب للنظر في مباح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ورقة عمل تحت عنوان: أساسيات منهج تدريس فقه القضايا المعاصرة، من خلال ثلاثة مداخل تربوية "الجزء الأول"
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
المركز التربوي الجهوي بوجدة :: ...:::::: منتديات المواد المدرسة بالمركز التربوي ـ شعبة التربية الإسلامية ::::::... :: ..:: مادة وحدات استكمال التكوين مع الدكتور مصطفى صادقي ::..-
انتقل الى: