تفسير سورة لقمان
* هذه السورة الكريمة "سورة لقمان" من السور المكية، التي تعالج موضوع العقيدة، وتعنى بالتركيز على الأصول الثلاثة لعقيدة الإِيمان وهي "الوحدانية، والنبوة، والبعث والنشور" كما هو الحال في السور المكية.
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر الكتاب الحكيم، معجزة محمد الخالدة، الباقية الدائمة على مدى الزمان، وأقامت الحجج والبراهين على وحدانية ربّ العالمين، وذكرت دلائل القدرة الباهرة، والإِبداع العجيب، في هذا الكون الفسيح، المحكم النظام المتناسق في التكوين، في سمائه وأرضه، وشمسه وقمره، ونهاره وليله، وفي جباله وبحاره، وأمواجه وأمطاره، ونباته وأشجاره، وفي سائر ما يشاهده المرء من دلائل القدرة والوحدانية، مما يأخذ بالقلب، ويبهر العقل، ويواجه الإِنسان مواجهةً جاهرة لا يملك معها إِلا التسليم بقدرة الخالق العظيم.
* كما لفتت أنظار المشركين إِلى دلائل القدرة والوحدانية منبثة في هذا الكون البديع، وهزت كيانهم هزاً {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
* وختمت السورة الكريمة بالتحذير من ذلك اليوم الرهيب الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا..} الآية.
التسميَة:
سميت سورة لقمان لاشتمالها على قصة "لقمان الحكيم" التي تضمنت فضيلة الحكمة وسرّ معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات وما تضمنته كذلك من الوصايا الثمينة التي أنطقه الله بها، وكانت من الحكمة والرشاد بمكان!.
مميزات القرآن الكريم، ووصف المؤمنين به
{الم(1)تِلْكَ ءاياتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ(2)هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ(3)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(5)}.
{الم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن، وللإِشارة إِلى أن هذا الكتاب المعجز الذي أفحم العلماء والأدباء والفصحاء والبلغاء منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية "ألف، لام، ميم" وهي في متناول أيدي الناطقين بالعربية، وهم عاجزون أن يؤلفوا منها كتاباً مثل هذا الكتاب بعد التحدي والإِفحام، وهذا من أظهر الدلائل وأوضح البراهين على أنه تنزيل الحكيم العليم {تِلْكَ ءاياتُ الْكِتَابِ} أي هذه ءايات الكتاب البديع، الذي فاق كل كتاب في بيانه، وتشريعه، وأحكامه {الْحَكِيمِ} أي ذي الحكمة الفائقة، والعجائب الرائقة، الناطق بالحكمة والبيان، والإِشارة بالبعيد عن القريب "تلك" للإِيذان ببعد منزلته في الفضل والشرف {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} أي هداية ورحمة للمحسنين الذين أحسنوا العمل في الدنيا، وإِنما خُصوا بالذكر لأنهم هم المنتفعون بما فيه، ثم وضح تعالى صفاتهم فقال {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها على الوجة الأكمل بأركانها وخشوعها وآدابها {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي يدفعونها إلى مستحقيها طيبةً بها نفوسهم ابتغاء مرضاة الله {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي يصدّقون بالدار الآخرة ويعتقدون بها اعتقاداً جازماً لا يخالطه شك ولا ارتياب، وكرَّر الضمير "هم" للتأكيد وإِفادة الحصر {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة على نور وبصيرة، ومنهج واضح سديد، من الله العزيز الحميد {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي هم الفائزون السعداء في الدنيا والآخرة، قال أبو حيان: وكرر الإِشارة {وَأُوْلَئِكَ} تنبيهاً على عظم قدرهم وفضلهم.
حال الكفار المعرضين عن القرآن وبمقابلتهم المؤمنين
{وَمنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(6)وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(7)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ(خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(9)}.
سبب النزول: خرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت في النضر بن الحارث اشترى قَيْنة (مغنية) وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام، إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه مُحمَّد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه، فنزلت.
وقال مقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يخرج تاجراً إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم، فيرويها ويحدِّث بها قريشاً، ويقول لهم : إن محمداً صلى الله عليه وسلم يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رُسْتُم واسِفنْديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون سماع القرآن.
ولما ذكر تعالى حال السعداء، الذين اهتدوا بكتاب الله وانتفعوا بسماعه، عطف عليهم بذكر حال الأشقياء، الذي أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع الغناء والمزامير فقال {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} أي ومن الناس من يشتري ما يُلهي عن طاعة الله، ويَصُد عن سبيله، مما لا خير ولا فائدة فيه، قال الزمخشري: واللهو كل باطلٍ ألهى عن الخير، نحو السمر بالأساطير، والتحدث بالخرافات المضحكة، وفضول الكلام وما لا ينبغي، وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الآية فقال: والله الذي لا إِله إِلا هو -يكررها ثلاثاً- إِنما هو الغناء، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي ليُضل الناس عن طريق الهدى، ويُبعدهم عن دينه القويم، بغير حجة ولا برهان {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} أي ويتخذ ءايات الكتاب المجيد سخرية واستهزاءً، وهذا أدْخَلُ في القبح، وأعْرَقُ في الضلال {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي لهم عذاب شديد مع الذلة والهوان {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا} أي وإِذا قرئت عليه ءايات القرآن {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} أي أعرض وأدبر متكبراً عنها كأنه لم يسمعها، شأن المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام، ويجعل نفسه كأنها غافلة {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} أي كأن في أذنيه ثقلاً وصمماً يمنعانه عن استماع ءايات الله {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي أنذره يا محمد بعذاب مؤلمٍ، مفرطٍ في الشدة والإِيلام، ووضْع البشارة مكان الإِنذار تهكم وسخرية، قال أبو حيّان: تضمنت هذه الآية ذمَّ المشتري من وجوه: التولية عن الحكمة، ثم الاستكبار عن الحق، ثم عدم الالتفات إلى سماع الآيات، ثم الإِيغال في الإِعراض مشبهاً حال من لم يسمعها، لكونه لا يلقي لها بالاً ولا يلتفت إِليها، ثم التهكم به بالبشارة بأشد العذاب .. ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم، ذكر ما وعد به المؤمنين من جنات النعيم فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح، وبين حسن النيّة وإِخلاص العمل {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} أي لهم على إِيمانهم واستقامتهم على شريعة الله جناتُ الخلد يتنعمون فيها بأنواع الملاذّ، من المآكل والمشارب والملابس، والنساء والحور العين، وسائر ما أكرمهم الله به من الفضل والإِنعام، مما لا عينٌ رأتْ ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر {خَالِدِينَ فِيهَا} أي دائمين في تلك الجنات، لا يخرجون منها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} أي وعداً من الله قاطعاً، كائناً لا محالة، لا خلف فيه لأن الله لا يخلف الميعاد {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو تعالى العزيز الذي لا يغلبه شيء ليمنعه عن إِنجاز وعده، الحكيم الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
خلق السماوات والأرض دليل على وحدانية الله
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ(10)هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(11)}.
ثم نبّه تعالى إِلى دلائل قدرته، وآثار عظمته وجلاله لإِقامة البراهين على وحدانيته فقال {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي خلق السماوات في سعتها وعظمتها وإِحكامها بدون دعائم ترتكز عليها، حال كونكم تشاهدونها كذلك واقفة من غير أن تستند على شيء، ولا تمسكها إِلا قدرة الله العليّ الكبير {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي جعل فيها جبالاً ثوابت لئلا تتحرك وتضطرب بكم فتهلككم بأن تقلبكم عن ظهرها، أو تهدم بيوتكم بتزلزلها، قال الإِمام الفخر الرازي: واعلم أن الأرض ثباتُها بسبب ثقلها، وإِلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح، ولو خلقها تعالى مثل الرمل لما كانت تثبتُ للزراعة، كما نرى الأراضي الرملية ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع، فهذه هي حكمة إِرسائها بالجبال، فسبحان الكبير المتعال {وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي ونشر وفرَّق في أرجاء الأرض من كل أنواع الحيوانات والدواب من مأكول ومركوب، مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إِلا الذي خلقها {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي وأنزلنا لحفظكم وحفظ دوابكم المطر من السحاب {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي فأنبتنا في الأرض من كل نوعٍ من النبات، ومن كل صنفٍ من الأغذية والأدوية {كَرِيمٍ} أي كثير المنافع، بديع الخلق والتكوين {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي هذا الذي تشاهدونه وتعاينونه أيها المشركون هو من مخلوقات الله، فانظروا في السماوات والأرض، والإِنسان، والنبات، والحيوان، وسائر ما خلق الله ثم تفكروا في آثار قدرته، وبديع صنعته، ثم أخبروني {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}؟ أي أيَّ شيءٍ خلقته آلهتكم التي عبدتموها من دون الله من الأوثان والأصنام؟ وهو سؤال على جهة التهكم والسخرية بهم وبآلهتهم المزعومة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الواضح فقال {بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي بل المشركون في خسران ظاهر، وضلالٍ واضح ما بعده ضلال، لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، وعبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر، فهم أضل من الحيوان الأعجم، لأن من عبد صنماً جامداً، وترك خالقاً عظيماً مدبراً، يكون أحطَّ شأناً من الحيوان.
وصية لقمان الحكيم لابنه
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(12)وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(15)يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16)يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18)وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19)}.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أي والله لقد أعطينا لقمان الحكمة وهي الإصابة في القول، والسَّداد في الرأي، والنطق بما يوافق الحق، قال مجاهد: الحكمة: الفقه والعقل، والإِصابة في القول، ولم يكن نبياً إِنما كان حكيماً {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} أي وقلنا له: اشكر الله على إِنعامه وإِفضاله عليك حيث خصَّك بالحكمة وجعلها على لسانك، قال القرطبي: والصحيح الذي عليه الجمهور أن "لقمان" كان حكيماً ولم يكن نبياً وفي الحديث (لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً كثير التفكر، حسن اليقين، أحبَّ الله تعالى فأحبَّه، فمنَّ عليه بالحكمة) {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي ومن يشكر ربه فثواب شكره راجع لنفسه، وفائدته إنما تعود عليه، لأن الله تعالى لا ينفعه شكر من شكر، ولا يضره كفر من كفر ولهذا قال بعده {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي ومن جحد نعمة الله فإِنما أساء إلى نفسه، لأن الله مستغنٍ عن العباد، محمودٌ على كل حال، مستحقٌ للحمد لذاته وصفاته، قال الرازي: المعنى أن الله غير محتاج إِلى شكر حتى يتضرَّر بكفر الكافر، فهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أم لم يشكروه، ثم ذكر تعالى بعض نصائح لقمان لابنه وبدأ بالتحذير له من الشرك، الذي هو نهاية القبح والشناعة فقال {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} أي واذكر لقومك موعظة لقمان الحكيم لولده، حين قال له واعظاً ناصحاً مرشداً: يا بني كن عاقلاً ولا تشرك بالله أحداً، بشراً أو صنماً أو ولداً {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أي إِن الشرك قبيح، وظلم صارخ لأنه وضعٌ للشيء في غير موضعه، فمن سوَّى بين الخالق والمخلوق، وبين الإِله والصنم فهو -بلا شك- أحمق الناس، وأبعدهم عن منطق العقل والحكمة، وحري به أن يوصف بالظلم ويجعل في عداد البهائم {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} أي أمرناه بالإِحسان إِليهما لا سيما الوالدة {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي حملته جنيناً في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفاً على ضعف، من حين الحمل إِلى حين الولادة، لأن الحمل كلما ازداد وعظم، إِزدادت به ثقلاً وضعفاً {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي وفطامه في تمام عامين {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} أي وقلنا له: اشكر ربك على نعمة الإِيمان والإِحسان، واشكر والديك على نعمة التربية { إِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي إِليَّ المرجع والمآب فأجازي المحسن على إِحسانه، والمسيء على إِساءته، قال ابن جزي: وقوله {أَنْ اشْكُرْ} تفسيرٌ للوصية، واعترض بينها وبين تفسيرها بقوله {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ليبيّن ما تكابده الأم بالولد مما يوجب عظيم حقها، ولذلك كان حقها أعظم من حق الأب { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي وإِن بذلا جهدهما، وأقصى ما في وسعهما، ليحملاك على الكفر والإِشراك بالله فلا تطعهما، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق {فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أي وصاحبهما في الحياة الدنيا بالمعروف والإِحسان إِليهما -ولو كانا مشركين- لأن كفرهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب التي تحمَّلاها في تربية الولد، ولا التنكر بالجميل {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} أي واسلك طريق من رجع إلى الله بالتوحيد والطاعة والعمل الصالح {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي مرجع الخلق إِلى الله فيجازيهم على أعمالهم، والحكمةُ من ذكر الوصية بالوالدين -ضمن وصايا لقمان- تأكيد ما أفادته الآية الأولى من تقبيح أمر الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فكأنه تعالى يقول: مع أننا وصينا الإِنسان بوالديه، وأمرناه بالإِحسان إِليهما والعطف عليهما، وألزمناه طاعتهما بسبب حقهما العظيم عليه، مع كل هذا فقد نهيناه عن طاعتهما في حالة الشرك والعصيان، لأن الإِشراك بالله من أعظم الذنوب، وهو في نهاية القبح والشناعة .. ثم رجع الكلام إِلى وصايا لقمان فقال تعالى {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} أي يا ولدي إِن الخطيئة والمعصية مهما كانت صغيرة حتى ولو كانت وزن حبة الخردل في الصغر {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أي فتكن تلك السيئة -مع كونها في أقصى غايات الصغر- في أخفى مكان وأحرزه، كجوف الصخرة الصماء، أو في أعلى مكان في السماء أو في الأرض يحضرها الله سبحانه ويحاسب عليها، والغرض التمثيلُ بأن الله لا تخفى عليه خافية من أعمال العباد { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي هو سبحانه لطيف بالعباد خبير أي عالم ببواطن الأمور {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ} أي حافظ على الصلاة في أوقاتها وبخشوعها وآدابها {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} أي وأمر الناس بكل خير وفضيلة، وانههم عن كل شر ورذيلة {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} أي اصبر على المحن والبلايا، لأنَّ الداعي إِلى الحق معرَّض لإِيصال الأذى إِليه، قال أبو حيان: لما نهاه أولاً عن الشرك، وأخبره ثانياً بعلمه تعالى وباهر قدرته، أمره بما يتوسل به إِلى الله من الطاعات، فبدأ بأشرفها وهي الصلاة، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن بسبب الأمر بالمعروف، فكثيراً ما يُؤذى فاعل ذلك {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي إِن ذلك المذكور مما عزمه الله وأمر به، قال ابن عباس: من حقيقة الإِيمان الصبر على المكاره، وقال الرازي: معناه إِن ذلك من الأمور الواجبة المعزومة أي المقطوعة، فالمصدر بمعنى المفعول {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي لا تمل وجهك عنهم تكبراً عليهم، قال القرطبي: أي لا تمل خدك للناس كبراً عليهم وإِعجاباً، وتحقيراً لهم، وهو قول ابن عباس {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} أي لا تمش متبختراً متكبراً {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} تعليلٌ للنهي أي لأن الله يكره المتكبر الذي يرى العظمة لنفسه، ويتكبر على عباد الله، المتبختر في مشيته، والفخور الذي يفتخر على غيره، ثم لما نهاه عن الخُلُق الذميم، أمره بالخُلُق الكريم فقال {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أي توسَّط في مشيتك واعتدل فيها بين الإِسراع والبطء {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أي اخفض من صوتك فلا ترفعه عالياً فإِنه قبيح لا يجمل بالعاقل {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي إِن أوحش الأصوات صوتُ الحمير فمن رفع صوته كان مماثلاً لهم،وأتى بالمنكر القبيح، قال الحسن: كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات فرد عليهم بأنه لو كان خيراً لفضلتهم به الحمير، وقال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير وآخره شهيق.
توبيخ المشركين على شركهم بالرغم من مشاهدتهم دلائل التوحيد
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ(20)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءاباءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(21)}.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي ألم تعلموا أيها الناس أن الله العظيم الجليل سخر لكم ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم لتنتفعوا بها، وسخَّر لكم ما في الأرض من جبالٍ وأشجار وثمارٍ وأنهار وغير ذلك مما لا تُحصى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} أي وأتمَّ عليكم أيها الناس نعمه العديدة، الظاهرة المرئية كنعمة السمع والبصر والصحة والإِسلام، والباطنة الخفية كالقلب والعقل والفهم والمعرفة وما أشبه ذلك، قال البيضاوي: أي أسبغ عليكم نعمه المحسوسة والمعقولة، ما تعرفونه وما لا تعرفونه {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي ومن الناس فريق جاحدون يخاصمون ويجادلون في توحيد الله وصفاته بغير علم ولا فهم، ولا حجة ولا برهان، ولا كتاب منزل من عند الله، قال القرطبي: نزلت في يهودي جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد: أخبرني عن ربك من أيّ شيء هو؟ فجاءت صاعقةٌ فأخذته، والمنيرُ: الواضح البيّن المنقذ من ظلمة الجهل والضلال {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي وإِذا قيل لهؤلاء المجادلين بالباطل اتبعوا ما أنزل الله على رسوله، وصدّقوا به فإِنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابائَنَا} أي قالوا نسير على طريقة ءابائنا ونقتدي بهم في عبادة الأوثان والأصنام {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيتبعونهم ولو كانوا ضالين، حتى ولو كان الشيطان يدعوهم إلى النار المستعرة ذات العذاب الشديد؟
المُقبلون على الله هم الناجون والمعرضون عنه هم المعذبين
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(22)وَمَنْ كَفَرَ فلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(23)نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ(24)}.
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} أي ومن يقبل على طاعة الله وينقاد لأوامره، ويخلص قصده وعبادته لله {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي وهو مؤمن موحد، قال القرطبي: لأن العبادة من غير احسانٍ ولا معرفة القلب لا تنفع، ونظير الآية {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فلا بدَّ من الإِيمان والإِحسان {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي تمسك بحبلٍ لا انقطاع له، وتعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب، قال الزمخشري: هذا من باب التمثيل، مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة، من حبلٍ متين مأمونٍ انقطاعه، وقال الرازي: أوثق العرى جانب الله، لأن كل ما عداه هالك منقطع، وهو باق لا انقطاع {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} أي إِلى الله وحده -لا إِلى أحدٍ سواه- مرجع ومصير الأمور كلها فيجازي العامل عليها أحسن الجزاء {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم أي لا يهمنك يا محمد كفر من كفر، ولا ضلال من ضلَّ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإِنا سننتقم منهم إِن عاجلاً أو آجلاً {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي إِلينا رجوعهم، فنخبرهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي عليم بما في قلوبهم من المكر والكفر والتكذيب فيجازيهم عليها {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا} أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي ثم نلجئهم في الآخرة إِلى عذاب شديد هو عذاب النار، الفظيع الشاق على النفس.
إثبات وجود الله وسعة علمه وشمول قدرته على البعث وكل شيء
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(26)وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(27)مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(28)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(29)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(30)أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ ءاياتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(31)وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ(32)}.
سبب النزول:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ}: أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، فنزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية.
وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] فلما هاجر إلى المدينة أتاه أحبار يهود، فقالوا: ألم يبلغنا عنك أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} إيانا تريد أم قومك؟ فقال: كُلاًّ عَنَيتُ، قالوا: فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي في علم الله قليل، فأنزل الله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ}.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري في كتاب العظمة وابن جرير عن قتادة قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فنزل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ} الآية.
{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ}: نزلت الآية في أبيّ بن خلَف وأبي بن الأسدين، ومُنَبِّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قد خلقنا أطواراً، نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عِظاماً، ثم تقول: إنا نُبعث خَلْقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
ثم لما بيَّن تعالى استحقاقهم للعذاب، بيَّن تناقضهم في الدنيا وهو اعترافهم بأن الله خالق السماوات والأرض، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها ملك له وأنها مخلوقاته فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من كفار مكة من خلق السماوات والأرض؟ ليقولنَّ -لغاية وضوح الأمر- الله خلقهن فقد اضطروا إِلى الاعتراف به {قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي قل لهم: الحمد لله على ظهور الحجة عليكم، وعلى أن دلائل الإِيمان ظاهرة للعيان {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يفكّرون ولا يتدبرون فلذلك لا يعلمون، ثم قال تعالى { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي له جلَّ وعلا ما في الكائنات ملكاً وخلقاً وتدبيراً {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي المستغني عن خلقه وعن عبادتهم، المحمود في صنعه وآلائه {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} أي ولو أنَّ جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي وجعل البحر بسعته حبراً ومداداً وأمده سبعة أبحر معه فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} أي لانتهت وفنيت تلك الأقلام والبحار وما انتهت كلمات الله، لأن الأشجار والبحار متناهية، وكلمات الله غير متناهية، قال القرطبي: لما ذكر تعالى أنه سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأنه أسبغ النعم، نبّه على أن الأشجار لو كانت أقلاماً، والبحار لو كانت مداداً، فكتب بها عجائب صنع الله، الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب، وقال ابن الجوزي: وفي الكلام محذوف تقديره: فكتب بهذه الأقلام وهذهالبحوركلمات الله، لتكسرت الأقلام ونفدت البحور ولم تنفد كلمات الله أي لم تنقطع {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب لا يعجزه شيء، حكيم لا يخرج عن علمه وحكمته أمر {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي ما خلقكم أيها الناس ابتداءً، ولا بعثكم بعد الموت انتهاءً إِلا كخلق نفس واحدة وبعثها، لأنه إِذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، قال الصاوي: المعنى أن الله لا يصعب عليه شيء، بل خلق العالم وبعثه برُمته كخلق نفسٍ واحدةٍ وبعثها { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع لأقوال العباد، بصير بأعمالهم، ثم أشار تعالى إلى دلائل قدرته في الآفاق فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي ألم تعلم أيها المخاطب علماً قوياً جارياً مجرى الرؤية، أن الله العظيم الجليل يدخل ظلمة الليل على ضوء النهار، ويدخل ضوء النهار على ظلمة الليل، ويزيد في هذا ويُنقص من هذا حسب الحكمة الأزلية {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ذلّلهما بالطلوع والأفول تقديراً للآجال، وإِتماماً للمنافع، كلٌ منهما يسير في فلكه إِلى غاية محدودة هي يوم القيامة {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي وأنه تعالى عالم بأحوالكم وأعمالكم لا تخفى عليه خافية، فإِن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق، والتدبير الفائق، لا يكاد يغفل عن كون صانعه جل وعلا محيطاً بكل أعماله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذلك الذي شاهدتموه من عجائب الصنع وباهر القدرة، لتتأكدوا أن الله هو الإِله الحق الذي يجب أن يعبد وحده {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} أي وأن كل ما يعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام باطل لا حقيقة له كما قال لبيد: "ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل" فالجميع خلقه وعبيده، ولا يملك أحدٌ منهم تحريك ذرةٍ إِلا بإِذنه {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي وأنه تعالى هو العليُّ في صفاته، الكبير في ذاته {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} تذكيرٌ بنعمة أُخرى أي ألم تر أيها العاقل أن السفن العظيمة تسير في البحر بقدرة الله، وبتسخيره ولطفه بالناس وإِحسانه إِليهم، لتهيئة أسباب الحياة، قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه هو الذي سخَّر البحر لتجري فيه الفلك بأمره أي بلطفه وتسخيره، فإنه لولا ما جعل في الماء من قوةٍ يحمل بها السفن ما جرت، ولهذا قال بعده {لِيُرِيَكُمْ مِنْ ءاياتِهِ} أي ليريكم عجائب صنعه، ودلائل قدرته ووحدانيته {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إِن في تسخير هذه السفن وما تحمله من الطعام والأرزاق والتجارات، لآيات باهرة، وعبراً جليلة لكل عبد منيب، صبَّار في الضراء، شكور في الرخاء. ولفظة "صبَّار" و"شكور" مبالغة في الصبر والشكر {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} أي وإِذا علا المشركين وغطّاهم وهم في البحر موج كثيف كالجبال {دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي أخلصوا دعاءهم لله حين علموا أنه لا منجي لهم غيره فلا يدعون لخلاصهم سواه {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} أي فلما أنقذهم من شدائد البحر، وأخرجهم إِلى شاطئ النجاة في البر {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} في الآية حذف تقديره فمنهم مقتصد، ومنهم جاحد، ودلَّ عليه قوله {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} والمقتصد: المتوسط في العمل، قال ابن كثير: وهذا من باب الإِنكار على من شاهد تلك الأهوال، والأمور العظام، ورأى الآيات الباهرة في البحر، ثم بعدما أنعم الله عليه بالخلاص كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والمبادرة إِلى الخيرات، والدؤوب في العبادات، فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصّراً {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} أي وما يكذب بآياتنا إِلا كل غدَّار، مبالغ في كفران نعم الله تعالى.
الأمر بتقوى الله، وبيان مفاتيح الغيب
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(33)إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(34)}.
سبب النزول:أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية هو الحارث بن عمرو، فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني بما تلد، وبلادنا مُجْدِبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمتُ متى وُلدتُ فأخبرني متى أموتُ؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ } أي اتقوا ربكم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} أي وخافوا يوماً رهيباً عصيباً لا ينفع والد فيه ولده، ولا يدفع عنه مضرةً، أو يقضي عنه شيئاً مما تحمَّله {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} أي ولا ولدٌ يغني أو يدفع عن والده شيئاً، أو يقضي عنه شيئاً من جنايته ومظالمه، قال الطبري: المعنى لا يغني ولا تنفع عنده الشفاعة والوسائل، إلا وسيلة من صالح الأعمال التي أسلفها في الدنيا {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي وعده بالثواب والعقاب، والبعث والجزاء حقٌ لا يتخلف {فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي لا تخدعكم الحياة الدنيا بمفاتنها ولذاتها فتركنوا إِليها {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي ولا يخدعنكم الشيطان الماكر الذي يغر الخلق ويمنيهم بأباطيله ويلهيهم عن الآخرة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} هذه هي مفاتح الغيب التي اختص الله بعلمها وهي خمس كما جاء في الحديث الصحيح (مفاتح الغيب خمسٌ لا يعلمهن إِلا الله وتلا الآية) أي عنده تعالى معرفة وقت قيام الساعة التي تقوم فيها القيامة {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} أي وعنده معرفة وقت نزول المطر ومحل نزوله { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} أي من ذكرٍ أو أنثى، شقي أو سعيد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} أي ما يدري أحد ماذا يحدث له في غد، وماذا يفعل من خير أو شر {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي كما لا يدري أحدٌ أين يموت. ولا في أي مكانٍ يُقبر {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أي مبالغ في العلم، يعلم كل الأمور، خبير بظواهر الأشياء وبواطنها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.